Nabil Khebbazi
We have known each
other (Nabil and I) in Bazbina ever since we were kids. He was always a
staunch supporter and participator in all the activities in the village.
Earned a law degree from the Lebanese University and stepped up in
several government positions to be at present the "Kaem Makam" of
B'sharri District in North Lebanon. Kaem Makam is the official name of
the Government representative in a particular district in Lebanon.
Part
of Nabil's family, the Khebbazi, immigrated to the Dominican Republic at
the beginning of the twentieth century. In Arabic, Khebbazi means the
lady who bakes bread. Consequently and for easiness, the family name was
turned in the Dominican Republic to "Pany-Aqua" by which the family is
now known there. Beside his official work, Nabil engaged himself
constantly in various social and environmental activities in which he
excelled and drew respect from all.
In 1986, he started
writing a series of short stories reflecting images from every day's
life. Two of his books are now published.
In the following pages
you will find a brief of his life, activities and some of his old and
recent pictures. Also, four short stories that he picked-up purposely to
be displayed on this web site.....Manuel Hazim.
Young Nabil with
priest Ibrahim Nassar and wife Paullina Koussa. 1962.
|
Nabil and with
his first son Tarek, a lawyer practicing in Tripoli. 2003.
|
الكاتب في كلمات
نبيل حنا خبَّـازي
Email : nabokazi@hotmail.com
(Mobile phone
00.961.3.902529)
ـ وُلد في بلدة بزبينا ـ
قضاء عكار- لبنان.عام 1947.
ـ تلقّى علومه
الابتدائية و الثانوية في مدارس بزبينا
و بيت ملاّت وحلبا
وطرابلس.
ـ حائز الاجازة في
الحقوق من الجامعة اللبنانية.
ـ حائز اختصاص تنمية من مجلس
الخدمة المدنية: خريج المعهد
الوطني للادارة والانماء في مجلس الخدمة
المدنية.
ـ عمل في التدريس ثمّ في وزارة
الشؤون الاجتماعية طيلة 24 سنة،
بوظيفة اخصائي تنمية اجتماعية.
ـ عمل
سابقا رئيس دائرة محافظة لبنان الشمالي 1994-
2004.
ـ
يعمل حالياً قائمقام بشري.
ـ
له تجارب في كتابة المقال الصحفي
والدراسات الانمائية و
السيناريو والاخراج المسرحي.
ـ
مارس العمل الاجتماعي و النشاط الشبابي ـ
المؤسّساتي و العمل
التعاوني و
الثقافي.
ـ
انتُخِبَ رئيساً و ادارياً في نادي و
تعاونية بلدة بزبينا منذ 1967
حتى 1989.
ـ
من مؤسّسي فرقة مسرح الريف، مارس المسرح
تمثيلاً و اخراجاً
طيلة 27 سنة.
ـ
من مؤسّسي المجلس الثقافي في عكار 1990.
ـ
عضو في المجلس الثقافي للبنان الشمالي.
ـ
بدأ الكتابة في القصة القصيرة منذ عام 1986
ونُشِرتْ له بعض
الأعمال في بعض المجلاّت اللبنانية.
-نُشر
له كتاب "الشقائق" عام 1998 – عن دار زخور للنشر.
-نُشر
له كتاب "رؤيـا" عام 2004 – عن دار مكتبة السائح.
Nabil at
his book signing with Milad Antoun and Dr. Hassan Chdid.
At the
Church Yard in Bazbina (L-R) Saad Sassin, Sleiman el-Mahmoud, George
Khebbazi, Nabil and Nicholas Issa. 2004.
من
كتـاب
"الشقائق"
الصادر
عام 1998
**********
عِنـَاقٌ
فـَوْقَ جُثـَّة
طلقاتُ رَشيشٍ فرْقَعَتْ،
فخَرَقَتْ سكون اللَّيل.
سـاعـةٌ أَو أَقلُّ بَقِيَتْ
علـى طُلـوع الفجْر.
أَحـد الرجال المعروفين ، من
مُتَقاتلي المدينة، يَخُـرُّ صريعاً.
سقط الرجلُ في منتصفِ
المسـافـةِ بين خَـطَّـي القتــــال.
دقائقُ مَضَتْ، و زغْـردتْ
آلاتُ الحرب. عـددٌ كبيرٌ مِنَ الضحايا سقط في صفـوف الأَهـالي.
إِسـتيقظتِ المدينـةُ لإِحياء
مآتم أَبنائها.
إِطلاقُ النار يتلاشـى شـيئاً
فشيئاً، إِلاَّ من بعـض طلَقـاتٍ من هنا و من هناك، حفاظـاً على " هَيْبَةِ
" الصـِّراع.
بـدأَتِ الوشْـوَشاتُ تَسـْري
كالنار في الهشـيم:
ـ أَبو اللَّيل جُـرِح
؟...أَبو اللَّيل قُـتِل ؟... أَبو اللَّيـــــــل " اسـتُشْـهِد ؟" !!...
و تَتَفَاوتُ التعليقاتُ
باخـتلاف الأَشخاص و الأَحياء. منهم مَنْ تأَسـَّف، و منهــم مَنْ
تـرحَّـم، و منهم مَنْ لـم يصـدِّ ق الخبر :
ـ " معقول أَبو اللَّيل يمـوت
؟" !!
ـ " حَـدُّ هُ القِــرد !" .
...............
بعدَ سـاعةٍ علـى الغروب ،
انطلق اثنان من وراءِ أَكْوام المتاريس ، حَوْل كلٍّ منهما فريقٌ من
المدجَّجين بالسلاح . الخُطى ثابتةٌ مَوْزونةٌ، المسيرة في وضْعٍ حَذِرٍ ،
والأَيدي مشدودةٌ على البنادق .
عامِلُ اللاَّسلكي يتقدَّم
الموْكب ، ويَبُثُّ بلا انقطاعٍ معلوماتٍ عن خطِّ سَيْرِ الفريق ..عن موْكب
الخَصْم وحركته .. عن الـمَعَالم التي تَحفُّ بالطريق :
... بستانُ البرتقال المحروقُ
إِلى اليمــين ... المعملُ الأَخضر ( المتكوِّمُ أنقاضاً )إِلى اليسار ...
بناية الأَيتام ( الذين يُتِّمُوا ثانيةً) إِلى الأَمام ... عشرة أَمتارٍ
للوصول إِلى ا لهدف ... .
إِنفصلا عـن مجموعتيهما ،
وتقدَّم كلٌّ منهما إِلى مكان سقوط القتيل . عامل اللاَّسلكي يَبُث :...
الوضْع الأَمنيُّ جَيِّد ....
المعنويات عالية ... ثوانٍ
على الالتقاء ... إِنهما يقتربان من بعضهما ... يتصحافان ... يتعا ...
ـ معقول ؟!
أغلقَ
صَمَّام الجهاز :
ـ يتعانقان !!
فَتحَ
صمَّام الجهاز :... إِنهما يتفحَّصان الجثة ... يتفحَّصان المكان ...
ينظران باتجاه خطِّـــــنا ... ينظران باتجاه خطِّهم ...يتجادلان ...
صوتهما يعلــو ... صوتهما ينخفض ... يتفاوضان ... .
.......
بِعَصَبِيَّةٍ بادَرَ أحدُهما
:
ـ ليس مقبولاً أَن تَفْعلَها
بي ثانيةً . إِمَّا أَنك تَلْعب بالنار ولا تدري ، أَو أَنَّك مُغَفَّل .
كُنْ واضحاً معي .
ـ ماذا تقولُ يا رجل!؟ هل من
عادتي أَن أَغُش ؟.
ـ إِني أَسأَلُك .
ـ وَضَعْتُ الإِشارة
المعْلومةَ على زاوية كلِّ طَرْدٍ
كالعادة .
هزَّ رأْسه ، ثم أَجابه :
ـ حالتُك مع هذا الخترير
ـ ويشير إلى الميت ـ
كَحَالَةِ الزوج المخدوع .
ـ ماذا تَقْصِد ؟.
ـ في المرَّة السابقة خَسِرتُ
زَبُوناً مُهِمّاً بِسَبب
مُراسِلِك ، أَلا تَذْكُر ؟
والآن ...
ـ لم أَنسَ ذلك .
ـ ولقد بَلَعْتُ المُوسى
كُرْمَى لعلاقتنا القديمة .
ـ يا حقير يا ابن ال ... ـ
همَّ أحدُهُما بِرَفْسِ الجثة .
ـ إِسمع . لقد تناسَيْتُ
خسارتي في الماضي ، أَمَّا أَنْ
تتكرَّر ، فالمسألة ...
قاطَعَهُ مُتلهفاً وفي
نِيَّتِه تَبْريدُ الموْقِف :
ـ ماذا فَعَلْتَ به ؟
أَخْبِرْني .
ـ لقد أرهَبْتُه منذ وصُولِه
إليَّ ، فارْتَبَكَ وانْهار.
إحْزَرْ ماذا وَجَدْت؟.
ـ ...... .
ـ إِكتشفتُ طردَيْن
مَغْشوشيْن . طَرَدْتُه وقَرَّرْتُ
تصفية الحساب معه
.
ـ لماذا لم تخبرني بالأَمر
قبل أَن ...
ـ رُوَيْدك ! ـ قاطَعَه ...
انت لا تستطيع إِزاحَتَه .
فقد تُسَبِّبُ لِنفسِك
مُشكِلةً كبيرة .
إِبتَسَم ابتسـامةً خـبيثةً
وتابع :
ـ ... إِني ضَنينٌ
بِسُمْعَتِك و ... بحياتك معاً . هل
فهمتَ القَصْد ؟
لحظةُ سكوتٍ ثم أَكْمَل :
ـ ... أرسلْتُ مَن سَبَقَه.
هنا يَسْهُلُ إخفاءُ المسؤولية .
أَلا تُوافِقُني ؟.
ـ والآن ؟.
ـ الآن يا صاحبي لا بد َّ أَن
عُملاءَ مأْجورين قد
اغتالوا فقيدنا الغالي
ليُوقِعوا الفتنة " بيننا " ! ..
وأَشار إِلى المتاريس
المتقابلة .
سادَتْ بُرهة صمتٍ ، تبادلا
النَّظر، ثم اسْتَطْرَد :
ـ المِهِمُّ ، كيف ترى الحال
في البلد ؟ .
نظر الآخر نَظرة استفها مٍ ،
حتى أَدرَك مغزى السؤال فأَجاب بِنَبْرةٍ لا مبالية :
ـ طالتْ أَمْ قَصُرَتْ
فَلَسَوْفَ يتصافحون .
ـ أَنت مُحِقّ . لن نَكْسَب
شيئاً في السلم مما نَجْنيهِ الآن .
وضحكا بصوتٍ مرتفعٍ وتابعَ :
ـ ... عافاك يا صاحبي ! ـ
ورَبَّتَ على كتفه ـ لذلك
وجب أَن يسير العمل بانتظام
...
ثم أَخرَجَ من جَيْبِه
رِزْمةً ورقيةً مدَّ بها يَدَه إلى مُحَدِّثه :
ـ ... خُذْ ، هذا حقُّك . لقد
حَسَمْتُ قيمة الطَرْدَيْن .
تصافحا وتعانقا ثم افترقا .
أَشار أَحدهما إِلى رجاله .
وَضَعُوا الجثة على حَمَّالةٍ ،وقفَلُوا راجعين إِلى حدود " إِمارتهم
" .
........
في اليوم التالي ، يَقْرأُ
أَحدهم في بيان النعي المُعَلَّق على جدرانِ المدينة :
" سقط ... بعد أَن كافح
سنيناً طويلةً في الـنـضال، أَفنى حياته من أَجل الوطن الغالي ... عهد اً على مُواصَلةِ الدَّرب مهما
غَلَتِ التضحيات !" .
فَيَهُزُّ رأْسه ويَمضي
بِصَمْتٍ إِلى واجبه المقدس في مكا نٍ ما .
1987
من كتـاب
"الشقائق"
الصادر عام 1998
**********
الشَّـقـَائِـق
دأَبَ عشرات السنين أَن
يَؤُمَّ الحقول في الربيع ، فَيَقطف شقائِقَ النعمان .
قارَبَ الخمسين ، وهو ما زال
يُشبِعُ نَزْوَتَه فيتأَمَّل الأَحمر القاني بُرهةً، ثم يُشْرِع في انتزاع
بضع زهراتٍ ، لِيَضُمَّها في قبضته ، تُدَفِّـئُهُ، ولا يتخلى عنها إِلاَّ
بعد أَن يتـفرَّسَ فيها مليّا.
كان يرافق أَولادَه في
صِغَرهم ، فَيَحثُّهم على لَمِّ الزهر ، بعد أَن ينحنيَ صوْبَ أَديـمِ
الأَرض ، يَمُدَّ يده يُسابقُهم في القطاف .
ما بَرِح يتذكَّر أَيام "
الوَلْدَنَةِ" كلَّما فَتَّحتْ شقائِقُ النعمان . لم يَنْسَ تلك الفتاة
التي نَظَم من أَجلها بضعةَ أشعارٍ يوم كان في الثالثة عشرة.
شقراء ، نحيلةُ القِوامِ ،
صاحبةُ ظَرفٍ ، لا تفارقُها الضحكة.
كانتْ تُظْهِرُ له حبّاً ما
اعتاد عليه .
وكانت
يومَها تَكْبُره بعامين ، بل قُلْ ثلاثة .تجالس المعلِّمين وتحاكيهم ندّاً
لندٍّ ، فيشعر بالغَيْرة .
في يومٍ ،بادَرَتْهُ قُبُلاتُ
الزَّمـــالة ، فتَجَذَّر وَلَهُهُ ، وازداد أَرَقُه .
من أَجلها ، أَصبح شوقه إِلى
المدرسة يضطَرمُ كلَّ يوم .
كان خجولاً ، فَلَم يُتْقِنْ
فنون الحديث مع الصبايا ، فاكتفى بالتَقَرُّب والنظرات ، وقد أَدمنَ
الجلوسَ قُربَها في رُدهـة الملعب .
قلبه كان يخفق عندما
يَتَنَسَّم رائحةَ شعرها . وَلَكَمْ بَنَى على حفيف " مَرْيولِها " بِطَرَف
سترته أَبعاداً وأَحلاماً ، جعلت طيْفَها يخرج معه إِلى الحقول ،
فَيَنْفَرِدُ بها ، ويُشْبِع عينيه منها، ثم يقبض على يديها النحيلتين
ويقول :
ـ أُحبُّك .. أُحبُّك ..
أُحبُّك ... .
ظُهْرَ يومٍ دافىءٍ من نيسان
، خرجَ يلعبُ مع رفاقه الصِّبيان في الحقول الملاصقة للمدرسة . جلس تَعِباً
على حا فَّة جَلٍّ كَسَتْهُ الطبيعةُ بسجَّادةٍ تَزْدان بأَلوا نٍ
تُمَجِّـــــد الخالق . وإِذ بها قادمـةٌ
مع رفيقاتها . ولما
تَفَرَّقْنَ ، نَظرتْ صَوْبَهُ ضاحكةً ، ثم انحنتْ قائلة : ـ لا أُحبُّ
إِلاَّ شقائق النعمان !.
ـ ...
.
وانبرى مُنْحَنِياً على
أَزهارها ، يقطفُ منها الكثير ، وينظر إِلى أَمامٍ ، فيَرقُبُ جانِبَ
خَدِّها المُزْهِر ، وشَعرَها الذهبي المُسْدَل ، وعاجَ ساقيْها،
ويسبحُ بعيداً في الخيال....
شاخَ ، وما زال يشتعلُ
وَجْداً بحقول
الشقا ئِق الحمراء .
كانون الثاني 1998 .
من كتـاب
"رُؤْيـا"
الصادر عام
2004
**********
الـرغـيـف
المُـرّ
تدخل في طيّات الذاكرة، فتشعرُ بحلاوةِ التذكُّرِ قشعريرةً تغوص في تلافيف
الذهن والأحاسيس.
حتى في ذكريات البؤس والشقاء، تبوحُ بها كأنك تخلع رداءً سميكاً، لتستعيدَ
في يومٍ حارٍ نسيماً منعشاً، طالما افتقدتُه، يأتيك من بحر تركتَه خَلفَك،
فتعودُ اليك الابتسامة.
المشهد الأول
تلك حالُ جرجي، ابنُ السبعين، يتنفس بِحُرِّيةٍ عندما يبوح بِماضٍ عاشه في
طفولته، وما يزال يخلعُه على الناس، كلما رأى في البَوْحِ لَذَّة.
يستقرُّ بجذعِه على مقدمة «الكنبَة»، وهو يحكي قصصاً من الذاكرة، فيُمَهِّد
بأسارير تشرق بمعاني الحبور والفكاهة، ليبدأ الكلام كحطَّابٍ حِرِّيفٍ
يستخرج أغصاناً يابسةً من أجمةٍ شعْثاء.
يتذكَّر طفولته، بعد أن خطرت له صُوَرٌ عن تلك البيوت، «القصور» العتيقة في
قريته.
يسمِّيها «قصورَ» ذلك الزمن، انطلاقاً من مبدأِ النسبية. فغالبية البيوت
كانت من حجارة «مشقوعة»، مسقوفةٍ بالخشب والتراب.
يبادرني "جرجي":
ـ أَتَذْكُرُ المعلم نخلة
؟
ـ لم أكن قد ولدتُ بعد !
ـ كنت قد انتسبت الى مدرسة القرية خلافاً لارادة والدي ابنُ الثمانين ـ
العاملُ المريض والعاطلُ عن العمل. نعم، كان أبي يعاني الأمَرَّيْن جوعاً
وقهراً ... ؛
…
وهبني الله ذكاءً وذاكرةً فائقةَ القدرة على الاستيعاب ... ؛
ثم
يستطرد : …
كنت
حافي القدمين، في الصيف والشتاء، وعلى الرُّغم من ذلك كنتُ الأوَّلَ في
الحساب، وفي اللغتين : العربية والفرنسية ...؛
وتشتدُّ نبرتُه : …
كنا مئةً وعشرين تلميذاً، وكنت متقدماً على جميع هؤلاء. فمعدّل علاماتي كان
يتراوح بين الثامنة عشرة والعشرين
…
في السنة الثانية، كان المعلم نخلة ـ وهو المعلم الوحيد في المدرسة ـ
يُصَنِّفُني بين المرتبتين الثامنة والعاشرة ... ؛
ـ كيف ذلك ؟!
ـ كان بعض أولياءِ رفاقي، من «الأغَوات»، يُكَرِّمون المعلم بصوانٍ
«مَتروسةٍ»
بالحلويات والأطايب.
ـ وأنت ؟
أجاب
"جرجي"
بفصل جديد من مأساته :
ـ كان المعلم «مطانيوس»
يعطف عليَّ، ويعرف أحوالي ومقدرتي وذكائي... أخذني بيده الى «الخواجه
ابراهيم»
، وطلب منه إكسائي.
ـ وماذا كانت نتيجة وساطته ؟
ـ قال له : ـ «هذا الولد ذكي … أبوه مريض، وليس لديه القوت …» …؛ وكان لي
لباسٌ و«قبقابٌ»
ردَّ أذى الحصى عن قدميَّ، وقذف عليَّ حسدَ إخوتي ورفاقي.
ويسترسل
"جرجي"
وهو مغتبطٌ بالتذكُّرِ :
ـ بعد توزيع نتائج السنة الثانية، انعزلتُ وبَكيْتُ، فسقتْ دموعي الأرض.
اقترب المعلم نخلة مني :
ـ «لماذا تبكي يا ولد، وأنت ناجح ؟!» … فتجرَّأْتُ بعد تردُّدٍ، وقلبي يقرع
كالطبل : … أنالُ العشرين على فروضي ومرتبتي العاشرة، والكسالى تُصَنِّفُهم
في المراتب الأولى … ! ؟.
ـ تلَفَّتَ المعلم حوله، حدَّق فيَّ برهةً، ثم أطرق كمن وقعت عليه مصيبة،
وأخيراً نطق :
ـ «يا خجلاً ! كيف أُصَنِّفُك في المرتبة الأولى، وأنت شِبْهُ عارٍ وحافي
القدمين … ! ؟ ».
ضحك
"جرجي"
واسترسل . عدّل جلسته ، ثم اتكأ مستقيماً على «الكنبة». التفتُّ، فإذا
بابتسامةٍ مع إشارةِ إشفاق، ترتسم على وجوه الجميع.
المشهد الثاني
على الرغم من شظف عيشه، أواخر ثلاثينات القرن الماضي، يتذكّر «جرجي»
بطلاقةٍ موسومةٍ بابتسامته العريضة المعهودة.
تلك حاله عندما يبوح، والجميع يصغي بتَلَذُّذٍ وإقبال:
ـ ظهيرةَ يومٍ من آبِ «اللهَّاب» كنتُ ـ وأنا ابن العاشرة ـ أحمل طعام
الغداء زاداً لأخي وابن عمي، العاملين في البستان المحيط بمنزل «جميل
أفندي»،
وجيه القرية ... ؛
….
في طريقي عرَّجْتُ على بستانٍ تزيِّنُهُ شجرة مُشْمُشٍ، تعوَّدْتُ اختلاسَ
بعض ثمارها، أيامَ عِزِّ جَنْيِها.
إنْكَبَبْتُ تحت ظلها أُفتِّش عن بعض النوى، بعد أن اطمأْنَنْتُ الى
خُلُوِّ منزل أصحابها من سكانه ... ؛
…
قمتُ بجمعِ النوى على عجلٍ، والخوف يقلقني، وخرجتُ الى الطريقِ أُكسِّرها
وأمضغُ بذورَها الحلوةِ، فانفتحت شهيتي !.
... شَمَمْتُ رائحةَ الطبيخ في الزَّاد، فَغَزَتْ مُخَيِّلَتي صورةُ البصلِ
المُحَمَّرِ الذي كان يتقلَّبُ في زيت المِقلاة الفخارية العتيقة ... ؛
…
أشَحْتُ بوَجهي، حتى لا يدفعني جوعي الى «خيانة» الأمانة، فانتصبتُ
واستأنَفتُ السَّيْر على الطريق العامرِ بالحصى و «الفِخاخِ» الحجرية ... ؛
…
قبل أن أصلَ الى المكان، عادت صورةُ المِقْلاةِ والبصل تُوَسْوِسُ، و
«عِطْرُ» الطبيخ يتصاعد الى مِنْخَريَّ، كأني بين يَديَّ أمِّي
المُنْهَكةِ، التي انهمكت قبل قليل في إعداد «المُجَدَّرة»
... ؛
…
ها أنا اقترب. عَبَرَتْ الى رئتيَّ رائحةُ خبزِ التنُّور الطازج،
فَشَعَرْتُ بها تتلوَّى نزولاً لتداعبَ جدران أحشائي ... ؛
…
انفتحت نفسي على جوع عتيق، إذ ما دخل على جوفي طعام، منذ عصر الأمسِ ... ؛
…
سلَّمتُ الزاد لأصحابه، وقفلت راجعاً الى جوار «القصر» المُنيف أجْتَرُّ
جوعي ... ؛
…
وكانت ثوانٍ غيْرَ مسبوقةٍ في حياتي: اضطربتُ
…
شعرت بالأسى …
سال لعابي …
وضعتُ نفسي موضعَ الكائنِ القابضِ على القوت الطازج
…
ضَجَّتْ في رأسي فكرة المنافسةِ المعيبة، فانتابني الخجل
…
أحسست بخطواتٍ تقترب من المكان ... سمعت سعالاً، فقدّرت أنه ما زال بعيداً
... تشويش اعترى حواسي...؛
…
فجأة، رأيْتَني قد رَمَيْتُ بنفسي أمام شِدقَيِّ الكلبِ الأشقرِ المدلَّل
…
خطفتُ الرغيف الطازج من بين فكّيهِ، وأرسلتُه في فمي مضغوطاً «مجعْلَكاً»
فاستَهْلَكتُهُ دفعتين، كادت كلُّ دفعةٍ تقطعُ أنفاسي... ؛
... وبينما أنا كذلك، إذا بالمحامي «جميل أفندي» فوق رأسي، مندهشاً
مستفسراً زاجراً.
ـ إني ما زلت على الرِّيق ... والله !.
صَمَتَ الوجيه برهةً، ثم استدرك :
ـ خُذْ لك رغيفاً آخر من «كديس»
الخبز هناك.
واستدار
"جرجي"
كلياً، فإذا بنظره يلتقي بنظر زوجة «الوجيه» القابعةِ قرب مِصْطَبة
التنُّور. تقدّم واجفاً، ثم أحجم.
ـ رأيتُ في عينَيها قساوةً تسحَقُ طالبَ القوت الذَّليل ! … مدّت يدها
برغيفٍ مُتردِّد، مستاءةً، مُزوَرَّةَ العينين، مزمومةَ الشفتين، تكاد
تَضُنُّ بالهواءِ يدخلُ الى رئتيها … ؛
… ولكني حزمت أمري … وأسرعت الى يدها الممدودةِ باتجاهي … ؛
… ودون أن أنظرَ في عينيها، خَطَفْتُ الرغيف وانسَلَلْتُ مسرعاً … ؛
…
حملتُ الغنيمة بلهفةٍ، وارتَدَدْتُ إلى منزلي، أقفزُ حافياً على الحصى
والتراب، كأني على بِساطِ الريح !.
أيار 2003
من كتـاب
"رُؤْيـا"
الصادر عام
2004
**********
رُؤْيـا
يغتبطان في سكون شامل على ساحة المدى، إلا من زغردةٍ أو رفَّةِ جانح طير
يغازل الأغصان.
يفترشان الأرض، وعيونهما تترنَّح بين كسل الجفون ولذة الاحتكاك بالنسائِم
المكَّحلة ببخور الأشجار الدهرية.
يستلقيان فوق أكتاف النبع، والمياه تُرقرق بين حوافي صخورٍ رمليةٍ بيضاءَ
متعرِّجة، فتسترقُّ الأُذنُ السمع، كما الى نقرةٍ رشيقة على أوتار
«القانون»، بأنامل موسيقار مبدع.
يشرفان على جنائن مُعلَّقة، وكتلةٌ من ضبابٍ قطنيٍّ مُنتَّف، تولدُ في شقِّ
«وادي جهنَّم»
، تكاد تداهم الأُفق المترامي، بين قرنة «جَيْرون»
وقمة «عارومة»
والسماء.
خرجت عليهما من طريقِ حافرٍ يَشُقُّ غابة الشوح، كبارقٍ يقطع ولوج النوم
الى الأجفان.
أَطلَّت على صهوة فرس، فأهْملَت العِقال، واكْتفت بكوفيةٍ شاختْ فتحلَّلَتْ
ألوانها، تكاد تخفي شعرها الكستنائيَّ الفاتح، تَبْرُزُ منها وجنتان
حنطِيَّتان مُخضَّبَتان بقرص حُمرة متوحشة، فقفزتِ الصبْوة في عيونهما،
كنمر تَوَثَّب لِنَيْلِ طريدة.
هبطت عليهما، في تلك البقعة المنسيَّة، مشهداً حاراً كفتنة، زادَ من حرارة
ذلك اليوم من تموز.
تَدْخُلُ الفرسُ في مرمى النظر بمشيةٍ متثاقلةٍ وئيدة، وقدمان نحيلتان
تغمران بطنها بشدَّة، تتشبثان، فتستغنيان عن المهماز.
فرسٌ شقراء، تمتطي صهوتها شابَّةٌ تضفي على عزلة المكان ألواناً من خيال،
فتختزل الحاضر، وتنسجُهُ على ذكريات فَيافي العرب، ورواياتِ فرسانهم،
وحِداءِ الشعراء العاشقين.
تَقَدَّم الركْبُ باتجاه النبع، وفي كلِّ خطوة، تتراقص نبضات الهوى والشباب
في عروقهما، فتأخذهما آيات التوحُّدِ بين المرأة والطبيعة.
دُهِشا حين توقفت الفرس وأناخت برأسها في الماء العذب، فَتَسَمَّرَ في
عيونهما مشهدُ تلك الشابَّة، وقد امتطت صهوتها دون سِرجٍ أو لجام، واستقرت
بجذعها الطريِّ على خرجٍ من نسيجِ الشَّعر.
ما انشغل فكرهما بكيف ولماذا، بل جُذْوَةٌ من نارٍ أَلْهَبَتْ خيالهما،
وتاقا الى التَحَلُّل من جمود العيش وضغط الأَعراف والنواميس.
ترجَّلتْ برشاقة الفرسان. رمقتْهُما تسرقُ نظرةً جانبيةً خجولة، فخفقتْ
جوارحُهما، وتراقصت دماءُ الأوردةِ لتستعيدَ فيهما مشاعر الصبا.
كلٌّ منهما رجِعَ إلى صندوق الذاكرة، فنبشَ، ثم رمَّمَ صورة محبوبةٍ
ليضمَّها إلى قلبه، أو ليطاردَها بِوَرْدةٍ، أو ليرشُقَها بعِطرٍ صِمغيٍّ
من لُحاءِ أشجارِ الشوح واللزَّاب.
اشتدَّت سرعةُ النَّسَمات، وانزاحتِ الكوفية، فطلع عليهما وجهٌ كالطَّيفِ
رقيق، كالشمسِ دافىء، كضبابِ الوادي منعش، كنبيذٍ، كقطعةِ حلوى، كحلمٍ
لذيذ.
وهما يرقُبانِها تملأ جرارها، كانت النسائم الغربية تخبو ثم تشتدُّ، فيرتفع
طرفُ ثوبها الفضْفاض، كأنَّ النسائم تأْبى إلا أن تلاطفَ جسدها الغض،
فَينْفُذُ في إثرها شعاع عيونِهما متسلِّلاً فـي نسيـج فستانها المزركش
بالورود الباهتة.
يحْدوهُما الوجْدُ على استجداءِ نظرةٍ أُخرى، يكاد يطير بهما، فيتردَّدا
خجلاً ووقاراً.
ملأت جرارها، وقفل وراءَها صبيٌّ كان يرافقُها، وغادرتْ، فحملتْ مع طيْفِها
وَلَهاً، وعيوناً، ونظراتٍ، وشذا رغبة.
قبل غروب ذلك اليوم، خرجا بين أكواخ الزارعين والرعاة المنتشرين على طريق
العودة، يبحثان كمن يبحث عن تفسير حلم.
في كل عام، يخرجان الى تلك الجبال، على أَملٍ بِلِقاءِ طيْفِ صاحبةِ الفرس،
والكوفية العتيقة، والفستان المزركش بالورود.
وما زالا يستذكران :
ـ كانت رؤيا وِسْعَ الخيال !.
ـ كانت رؤيا تُعيدُ دَفْقَ الدمِ إلى العروق !.
ـ ترى، تلاشت أم سترجع في يومٍ آخر ؟؟
تموز 2003
|